علي السباعي
هذا ما قالته شهرزاد . . .
قمرٌ أحمرُ أدكنُ تأرجحَ بين تربيعٍ أول وتربيعٍ ثانٍ . لا حل ، أُحتجزَ القمر تحت الجذرِ التربيعيّ ، صافراتُ إنذار متقطعةٍ تلاها دويُّ طائراتٍ قادمةٍ تَسبقُها التماعاتٌ فضيةٌ . انفجارات. صيحات . ارتعاشات ، دويُّ طائراتٍ مبتعدةٍ أعقبه صافراتُ إنذار مستمرةٌ ، المدينةُ رادارٌ رماديٌّ كبيرٌ يسترقُ السمعَ وشهرزادُ في آذانهِا وَقْرٌ سكتتْ عن الكلامِ المباحِ لسمَاعها إذاعة إعلانات متواصلةٍ نقلتها كافةُ الإذاعات السمعيّةِ والمرئيّةِ :-
ـ إعلان: ( مطلوبٌ مُحِّنطٌ ماهرٌ بخبرةٍ لا تَقِلُّ عن عشرِ سنواتٍ )
ـ إعلان: ( درجةٌ شاغرةٌ لنجارٍ خبيرٍ بصنعِ التوابيت)
ـ إعلان : ( على مَنْ يجد في نفسهِ القدرة على النواحِ الحضور إلى قصرِ الأمير شهريار)
ـ إعلان: ( يرجى من: الدفاّنين ، النواّحين ، المّعزين ، قارئي الأدعيةِ حضورُ موكبِ جنازة )
عَبَرَ المشيعّونَ شوارعَ المدينة بتابوتٍ خشبي كبيرٍ توّجَ مناكبَهم ، ضمَّهم دربٌ طويلٌ مزدحمٌ : دفاّنون ، سماسرةٌ ، متملّقون ، شحّاذون ، منافقون ، انحدروا برهبةٍ كَسَرتْ مواشيرَ الضوءِ البلّوريةَ يبدون كشناشيلَ مغروسةٍ في الإسفلت ، تمازجتْ أنفاسهم مندفعة مع ألوان ملابسهمْ المتدفقةِ كمدٍّ بشريٍّ حركاتُهُ تزفُرُ زَبَداً رَغوياً زَنِجاً حَجَبَ شُقرةَ الشَّمسِ ، ساحَ نواحُهم في شرايينِ المدينةِ بكاءً عَطِّلَ حواسهم عن التقاطِ لغطِ المشيّعين :-
مَنْ المرحوم ؟
مَنْ أهله ؟
ابنُ مَنْ ؟
كيف توفى ؟
هل أصابته شظّيةٌ نتيجةُ القصفِ ؟
أقُصِفَتْ دارُهم ؟
ماذا يشتغلُ ؟
تدافع وَسْطَ المشيّعين سؤالٌ اندفعَ كديكٍ يلاحقُ دجاجةً :-
اغنيٌ أم فقيرٌ ؟
فاض بكاؤهمُّ مُحِّطماً سواتَر ترقُبهِّم سأل رجلٌ بدين ذو بذلة أنيقة :-
هل المرحومُ موظفٌ كبيرٌ ؟
هتف دفاّنٌ بصوتٍ فيه نبرةُ يأس :-
افتحوا التابوتَ لنرَ مَنْ بداخِلهِ .
بائعُ شموعٍ يضعُ سبّابتهِ على فمِ الدفاّنِ مُصدراً صوتاً طويلاً :-
هُسّ !
كمشروع حلمٍ متسرب في حنايا الذاكرةِ تذكرتْ بطونُ الجياعِ نواحَ بطونهم ، سأل أحدهم ملبياً نداء بطنه:-
أَيوزّعون فيها ثواباً ؟!!
رجل دين بوجه مقمر ، قال بصوتٍ مخنوقٍ :-
نخسرُ . دائماً . نخسرُ .
النوّاح ماضٍ في ترديدِ موّاله الحزين :-
لا إلهَ إلا هو 000 لا يدوم إلا وجهُهُ 000 ذو الجلال و الإكرام 000
شحّاذٌ يحجلُ على عكاّزةٍ خشبيةٍ يدمدم بصوتٍ شاكٍ :-
لننتظرْ ! لنْ نخسرَ شيئاً .
قارئُ أدعية نصحَهَم بصوتٍ مشروخٍ مثلُ قطارٍ سياحيًّ:-
اصبروا حتى تصلَ الجنازة إلى مثواها الأخير .
أضاءت الشَّمسُ بغروبِها هاماتِ النخيلِ بشعلاتٍ لازوردية ، والمشيّعون ينظرون ناحيةَ ضريحٍ أبيض مهَيبٍ يكسو جدرانَهُ رخامٌ أشهب ، بدا الضريحُ تحت ضوءِ الشَفَق كأنه زَفَرَ ناراً على مجمرةِ الأفق التي كستْ جدرانَه نُعاساً بلونِ الدم ، تجمّع الدفاّنونَ ، المنافقونَ ، الشحّاذون ، والسماسرةُ بينَ القبورِ مطوَّقين بأسوار هُلاميّةٍ بنقاطِ التفتيش ، بائعُ أكفان يُفشي سرّاً :-
رجالُ الأمير اشتروا منيّ كَفَناً يَسَعُ فَرَساً !
هَمَدتْ مجمرةُ الكونِ في كانونِ الأفق ، القمرُ بتربيِعهِ الأول سجينُ جذرِهِ التربيعيَّ يبكي بدموعٍ من فضةٍ تَقَطِّرَتْ بالتماعاتٍ معدنيةٍ ، همستُ مُتحّسراً :
يا إلهي ! ألتهمَ القمرَ جياعُ العالمِ الثالث .
فَتَحَ التابوتَ رجالٌ أنيقون ذوو بدلاتٍ سودٍ . ذهولٌ . ترقّبٌ ، أظهروا جثمان المرحوم : –
(( أربعة قوائمٍ بيضٍ رشيقةٍ ، أُذنانِ بيضاوانِ كبيرتانِ ، عينانِ سوداوانِ واسعتانِ ، وجسدٌ ممشوقٌ رياضيُّ العضلاتِ ينتهي بذيلٍ أبيض طويلِ )) .
سكتتْ شهرزادُ عن الكلامِ المباحِ لسَماعها بياناً مُهّماً نقلته وكالات الإذاعات السمعيّةِ والمرئّيةِ ، بيان : ( يتوجَّهُ بالشكرِ الأمير شهريارُ إلى السادةِ مشيّعي جنازةِ فَرَسِه ) .